[ad_1]
برحيل بنعيسى بوحمالة فقد المشهد النقدي والأكاديمي بالمغرب والعالم العربي “أحد قاماتنا الأكاديمية الرفيعة في مجال نقد الشعر وقراءته وتدريسه”، وفق “بيت الشعر”، الذي نعى الفقيد قائلا إنه كان “من خيرة الباحثين والدارسين العرب الذين انشغلوا ببُعد الزنوجة في شعرنا العربي، وترسخ اسمُه خاصة بدراسته الثمينة عن الشاعر العراقي الكبير حسب الشيخ جعفر (…) علاوة على المؤلفات البحثية والدراسات النقدية الرصينة التي صدرت له في عدد من دور النشر مغربيا وعربيا (…) فضلا عن دوره التربوي والأكاديمي المرموق داخل جامعة مولاي إسماعيل بمدينة مكناس، حيث تخرجت على يديه أجيالٌ من الطلبة والباحثين، الذين تشربوا على يديه المناهج النقدية الحديثة.”
وعرف الفقيد بمؤلفاته حول الشعر المغربي والعربي والإفريقي والعالمي، وترجماته لمنتخبات من الشعر الإنساني السلوفاكي والألماني والبلجيكي والفرنسي والإيطالي.
ومن بين مؤلفات العلَم الراحل “النزعة الزنجية في الشعر السوداني المعاصر: محمد الفيتوري نموذجا”، و”أيتام سومر.. في شعرية حسب الشيخ جعفر”، و”مضايق شعرية”، و”شجرة الأكاسيا.. مؤانسات شعرية، في الشعر العربي المعاصر”، وصدر مؤخرا أحدث مؤلف له بعنوان “آرثور رامبو: مقاربات.. شهادات.. إضاءات”.
خسارة فادحة
قال مراد القادري، رئيس بيت الشعر، إن “غياب بنعيسى بوحمالة، يمثّلُ خسارة فادحة ليس لبيت الشعر في المغرب وحده، ولكن للحركة الشعرية والنقدية العربية والعالمية، فقد كان الفقيد أحد العلامات المضيئة التي نهتدي بها في سيرنا نحو شعاب الشعر ووديانه، وكان البوصلة التي تقودُ خطونا نحو شعريات العالم، التي كان، رحمه الله، مطّلعا عليها، مدركا لأسرارها، عارفا بها كما يعرف تفاصيل كفّه.”
وأضاف القادري في تصريح لانزي بريس: “لا أخفيك أننا نشعر، في بيت الشعر، باليتم بعد غياب بنعيسى بوحمالة. يتمٌ يتضاعفُ ويتقوّى في دواخلنا، خاصة وقد جاء وقد خسر الحقل الثقافي والنقدي المغربي، خلال السنتين الماضيتين، الناقدين الكبيرين محمد مفتاح وبشير القمري، اللذين شكلا بدورهما، إلى جانب بنعيسى بوحمالة، الثالوث الذهبي اللازم لفهم المتن الشعري المغربي وكشف مجاهله.”
وتابع المصرح: “أخلص الراحل بنعيسى بوحمالة للشعر، وأفنى وقته وجهده له، دارسا، ومدرّسا، ومترجما. وهو الأمر الذي يتعذر تعويضه، في الوقت الراهن، بالنظر لكون غالبية الممارسات النقدية الحديثة انصرفت عن الشعر نحو الرواية، فيما اختار الفقيد أن يكرّس منجزه النقدي كاملا للشعر، إذ نادرا ما نعثر للراحل على دراسة بحثية أو مقالة نقدية لغير الشعر.”
وواصل: “هذا الوفاء للشعر والانتصار له، سيتجلى في أكثر من لحظة ومناسبة، كانتسابه الباكر لبيت الشعر في المغرب، وذلك منذ اللحظات الأولى لتأسيسه سنة 1996، حيث شغل عضوية هيئته التنفيذية، وترأس تحرير مجلته (البيت) لعدة سنوات، عمل خلالها على تثمين المعرفة الشعرية مغربيا وعربيا وعالميا، وفتح أفق شعرنا المغربي على جغرافيات شعريات متعددة.”
وحول علاقة العلَم الراحل بـ”بيت الشعر”، قال القادري: “لقد كان، كما عهدناه دوما، مشاركا بمقترحاته وأفكاره من أجل تطوير بيت الشعر في المغرب، المؤسسة التي كان يعدّها بيته الأليف، لذلك لم يبخل عليها، رحمة الله عليه، بكل ما من شأنه أن يطوّر أداءها، ويرتقي بأدوارها الثقافية والشعرية والنقدية، لذلك لن تجد دورة أكاديمية أو ندوة وطنية من دوراتنا أو ندواتنا إلا وزيّنها اسم بنعيسى بوحمالة، الذي كان حضوره في مثل هذه المناسبات الثقافية والنقدية الرفيعة أمرا ضروريا ولازما لنجاحها.”
وذكر مراد القادري أن “بيت الشعر في المغرب” سيعقد ندوة وطنية كبرى عن بنعيسى بوحمالة بمناسبة الذكرى الأربعينية لوفاته، “تقديرا لمساره”، الذي أخلص فيه للشعر، “ورافقه في كتاباته ومؤلفاته، وفي مدرجات المدرسة العليا للأساتذة التابعة لجامعة المولى إسماعيل بمكناس، وفي جامعة الأخوين، وفي كافة المنتديات الثقافية واللقاءات النقدية والأكاديمية التي كان الشعر يصدحُ فيها بفضل صوت وترافع الراحل بنعيسى بوحمالة.”
علَم متعدد الأبعاد
“لا يمكننا الحديث عن رجل مثل بنعيسى بوحمالة دون استحضار أنه كان فعلا رجلا متعدد الأبعاد”، بهذه الكلمات استهل محمد عفط، رئيس شعبة اللغة العربية بالمدرسة العليا للأساتذة بمكناس، شهادته حول الناقد الراحل بنعيسى بوحمالة.
وقال الأكاديمي عفط في تصريح لانزي بريس: “لا يمكن الحديث عن الدكتور بنعيسى بوحمالة أستاذا إلا بقرنه بصفة الباحث، وهو ما كان يبرز بشكل واضح في محاضراته الغنية بمرجعيات متعددة، تحول المحاضرات إلى فرص حقيقية لبحوث مختلفة، كان يمكن أن يقوم بها طلبته في مجالات متعددة”.
وأضاف: “هذا الجانب في بنعيسى بوحمالة الناقد، وكتاباته، يقدمان دليلا قويا على العمق الذي تميز به النظر النقدي لديه، فلم يكن باحثا من طينة أولئك الذين يستسهلون الكتابة، وقراءة النصوص، وكان يعطي للقراءة قيمة عظيمة وكبرى، تجعله لا يكتب إلا ما تحقق لديه فيه جانب كبير من البحث، والتحري، والتنقيب”.
وواصل الأكاديمي شهادته: “لا يمكننا الحديث عن التجربة الشعرية المغربية الحديثة والمعاصرة، والتجارب الشعرية العربية الحديثة، دون استحضاره بشكل من الأشكال، فقد كانت له إسهامات نقدية متميزة، ونظرات نقدية فاحصة، تبين عن دربة ودراية كبيرتين في قراءة النصوص الشعرية، وليس فقط الوصول إلى تحليلها وتفكيكها، بل الوصول إلى ما يسكنها من تدليل وسحر، وهذا جانب مهم ونادر في النقد الشعري العربي والمغربي الحديث، وهي مسألة تتجلى أيضا في كونه كان ينتقي تلك النصوص”.
إذن، اجتمعت لدى العلَم الراحل “فضيلتان”؛ “فضيلة الدراية النقدية الكبيرة”، و”فضيلة الحب والشغف، في لحظة ما تلاحظ فنه، رغم الصرامة النقدية التي يتعامل بها في قراءة النصوص، دون أن تحول عن إقامة علاقة النصوص التي كان يحرص أن يقرأها، ويُظهرَ مسارات التدلي فيها”.
وزاد الشاهد: “هذا الأمر كان يعيه طلبته الذين كانوا أيضا يتوصلون بشكل من الأشكال إلى هذه الحقيقة، التي يظهر فيها أن الأستاذ ينجح إلى حد كبير في تحويل اهتمامهم بالنصوص الشعرية من مجرد نصوص في المقررات والمسالك التدريسية إلى كونها نصوصا تستحق أن نحبها ونعشقها، وأن تكون قراءتُنا لها لا تغيب البعد الأساسي، وهو بعد القراءة العاشقة للنصوص”.
حب النصوص هذا، وفق عفط، “منح قراءات الأستاذ الدكتور بنعيسى بوحمالة جانب العمق النقدي، وجانب أن يكون الشعر تلك الرغبة الكبيرة في كسر مجموعة من التصورات الدارجة، أو التصورات المسكوكة”، ومن هنا “نلاحظ أن مساهماته النقدية ميزتها قدرة الرجل العجيبة على تأمل أوضاع وأحداث من خلالها، وتفقّد أبعاد وتفاعلات في نصوص تنتمي إلى ثقافات متعددة ومتباينة، فيحيل إلى شعراء ينتمون إلى أصقاع جغرافية وثقافية مختلفة في العالم، ويرى الأواصر التي تجمعهم، فكان يستحضر نصوصا من الشعر الياباني والأمريكي اللاتيني والسلوفيني، وترجم ديوانا شعريا لشاعرة سلوفينية، وكان من أهم النقاد الذين أبرزوا في العربية المساهمات الإبداعية الشعرية للشعر الإفريقي بصفة عامة، وهو ما تبينه رسالته {النزعة الزنجية في الشعر العربي}”.
ثم أردف قائلا: “لقد كان يتجول في أبيات الشعر العربي القديم والحديث بسلاسة كبيرة، لا يتوفر عليها كثير ممن يتوجهون لدراسة هذا الشعر”، فضلا عن إدراكه “للعلاقات والرموز والحس المشترك التي كثيرا ما يعبَر عليها مرور العابرين، لأن الرجل لا يؤمن في كثير من الأحيان بالحدود المصطنعة بين الأجناس والأفكار والثقافات، وهو ما يجعل قراءاته للنصوص أو محاضراته عبارة عن فسيفساء من مرجعيات متعددة، وكان ينجح كثيرا في خلق الانسجام رغم التباين والتنوع”.
وزاد عفط في تصريحه لانزي بريس أنه يتحدث عن بنعيسى بوحمالة “بوصفه أستاذا، فقد درسني، كان أستاذي، والرجل الذي درّسني ظللت زميلا له لمدة تزيد عن ربع قرن بالمدرسة العليا بمكناس، التي كان أول رئيس لشعبة اللغة العربية بها، وهو أحد بناتها الأساسيين”.
ثم اختتم شهادته قائلا: “إضافة إلى عمقه في تدريسه، كان يتصف بالجدية والمواظبة، فقد ظل يدرس إلى آخر يوم من الموسم الدراسي 2016/2017، وهذه خصال وميزات أصبحت اليوم نادرة، ولكن الرجل ظل يتمتع بها كثيرا (…) وتخرجَت على يده أفواج عديدة، إلى حد أنني حيثما ذهبت إلى بقاع المغرب المختلفة، أجد من يسألني عن الأستاذ بنعيسى بوحمالة، الذي ظل وسيظل حاضرا في ذاكرة وقلب طلبته”.
[ad_2]