[ad_1]
تبدو شوارع الأحياء الشعبية بالعاصمة الرباط خالية ومهجورة، إذ أقفلت غالبية دكاكينها التجارية في سياق “هجرة أصحابها إلى الجنوب” خلال فترة عيد الأضحى، ما جعل الحركة الاقتصادية بالمدينة “مشلولة نسبيا”، رصدت انزي بريس عبرها “معاناة” الساكنة من غياب “مول الحانوت” الاضطراري.
أسوأ السيناريوهات
هدوء الشوارع تقطعه عمليات شي رؤوس الأضاحي، وصياح الأطفال معلنين فرحتهم بالعيد. وسط هذا الجو التقليدي يسارع شاب أربعيني الزمن من أجل العثور على دكان لشراء احتياجاته الخاصة، بعدما أقفلت جميعها بحي المحيط بالرباط، إذ قال: “الجميع من أصحاب الدكاكين رحلوا ليتركوننا في خصاص كبير”، قبل أن يضيف وعلامات الإحباط بادية على وجهه: “غياب مول الحانوت أسوأ السيناريوهات في الأعياد، فهي الفترة التي تتعاظم فيها احتياجاتنا بسبب عملية الذبح”.
وسط السوق التقليدي بالحي عينه لا يعلو صوت عن أصوات المجازر التي تقطع الأضاحي، إذ تبدو الوجهة الوحيدة والمفضلة للساكنة، بعدما أسدل بائعو الخضر والفواكه الستار على محلاتهم، معلنين رحيلهم النادر، الذي يرافقه صمت “مهيب”. أمام ذلك يرفض الشاب ذاته الذي رفض الكشف عن هويته الاستسلام في معركة إيجاد دكان لبيع المواد الغذائية، وهي العملية التي نجحت بعد بحث دام مدة ساعة ونصف، إذ ينتصب وسط زقاق ضيق دكان تقليدي صغير الحجم، فضل صاحبه البقاء بالرباط، والخروج عن طاعة “حملة الهجرة إلى الجنوب”.
“الذهاب إلى المدينة الأم في هذا الوقت سيكلفني الكثير”، يقول حماد، صاحب الدكان الضيق الذي تملأ جدرانه صور لاعبي المنتخب المغربي، قبل أن يضيف: “في الوقت الحالي كل شيء ثمنه مرتفع، وإذا قررت الذهاب إلى مدينتي الأصلية سأحتاج إلى شراء الهدايا لأبنائي، إلى جانب اقتناء الأضحية للعائلة والأقارب، وهو ما سيكلفني الملايين، وليس فقط بضعة آلاف من الدراهم”.
دكان حماد شكل “فرجا كبيرا” للكثير من الساكنة التي وجدت صعوبة بالغة في تلبية احتياجاتها الغذائية، من بينهم عشرينية سلكت مسافة متوسطة قصد اقتناء مواد للتنظيف، إذ تقول: “الكل هاجر الرباط، بقي فيها فقط من سجنته الضرورة، أو الغلاء. أما أصحاب الدكاكاين فأنا أتفهم رحيلهم، هم يستحقون فترة راحة بعدما أثقل كاهلهم العمل اليومي، وأصحاب ‘الكريديات’”.
الغلاء يخلق الاستثناء
ليس حماد الاستثناء الوحيد ممن فضلوا البقاء في الرباط عوض السفر صوب الجنوب لقضاء فترة العيد بجانب الأسرة، إذ قرر سعد (بقال ثلاثيني) فتح أبواب متجره خلال هذا اليوم، وهو ثاني عيد يخلف فيه التواجد في قريته بالريصاني، إذ قال وعلامات الأسى بادية على تقاسيم وجهه الأسمراني: “هو شعور قاس عدم التواجد في أحضان العائلة، لكن الظروف المادية خلال السنوات الأخيرة أجبرتني على البقاء في العمل فقط، فواجبات الكراء تضاعفت، وإذا أقفلت لمدة أسبوع لن أكون قادرا على تسديدها أبدا”.
“قررت مجددا هذا العام البقاء هنا، وفتح متجري، وأرسلت ثمن الأضحية إلى عائلتي”، يضيف سعد لانزي بريس، وهو يجلس على كرسي خشبي أمام باب متجره شبه العصري الذي يبدو الإقبال عليه خلال عيد الأضحى قليلا، إذ أورد أنه “رغم قلة المتاجر المفتوحة في هذا اليوم فالحركة التجارية قليلة، لأن الكل اقتنى احتياجاته مسبقا، خوفا من سيناريو إغلاق الدكاكاين، وتبقى نسبة متوسطة من تواجه هذا الأمر”.
تفضل العديد من العائلات بالمدن الكبرى اقتناء احتياجاتها قبل أسبوع من حلول عيد الأضحى، وهي الحالة التي صادفناها بشارع الحسن الثاني الذي يبدو على غير العادة مهجورا وخاليا، إذ يقول سعيد (مواطن أربعيني): “اشتريت كل احتياجاتي التي ستكفيني لمدة أسبوع، لأن ظاهرة غياب ‘مول الحانوت’ معروفة، وسبق لي أن عشت تفاصيلها بمرارة، إذ لم أجد مواد التنظيف، وخبزا لتناول الغذاء خلال يوم عيد الأضحى، وقد كان ذلك اليوم سيئا للغاية”.
يضيف سعيد: “غياب ‘مول الحانوت’ أمر طبيعي، فهو بحاجة إلى دفء العائلة؛ هو إنسان قبل كل شيء، وعلى العائلات التي تقع في مشكلة عدم إيجاده في الأعياد أن تحسب حساباتها جيدا قبل أسبوع، وتشتري احتياجاتها كاملة”.
العائلة الممتدة
لا تقف ظاهرة الإغلاق خلال يوم العيد على الدكاكين فقط، بل يصل الأمر أيضا إلى جل المحلات التجارية والخدماتية، لتبدو العاصمة في حالة سبات عميق، تتخلله حركة اقتصادية محتشمة لبعض المهن الموسمية، كذبح الأضاحي، وشي رؤوسها وقوائمها، فضلا عن امتلاء جل المقاهي عن آخرها خلال المساء.
“نحن لسنا أمام ظاهرة مجتمعية بقدر ما نحن في مواجهة ممارسة للأسرة الممتدة”، هكذا يشرح زكرياء أكضيض، أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاضي عياض بمراكش، موردا أنه “رغم التطور الذي عرفه المجتمع المغربي مع بروز أولوية للأسرة الأولية، إلا أن نظيرتها الممتدة مازالت تمتد في المحافظة على عاداتها المتوارثة بشكل مغاير”.
يكمن تأثير الأسرة الممتدة بحسب أكضيض في الزمان وليس المكان، إذ “تنشط وتعود حياتها في الفترات الزمنية الموسمية، كالأعياد، والمناسبات التي تستحضر طقوسا متوارثة”، وزاد: “في عيد الأضحى يجد التجار بالمدن الكبرى فرصة لإعادة إحياء الارتباط مع العائلة الممتدة، والالتحام معها لفترات زمنية محددة، غير أنها تطول في فترة عيد الأضحى، ليس بالنسبة لهم فقط، بل لدى جل المغاربة، نظرا لأهمية هذا اليوم”.
غياب أصحاب المحلات التجارية بالمدن الكبرى له تداعيات عدة على الساكنة، يتابع أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاضي عياض بمراكش تشريحه لتداعيات هاته الممارسة الموسمية، موضحا أن “التأثير الأول يكون اقتصاديا بالأصل، بسبب إغلاق أصحاب المحلات لمدة تصل إلى أسبوع، إذ تشل نسبيا الحركة التجارية بهاته المدن”، قبل أن يستدرك بأن “المغاربة كسبوا وعيا بهاته الظاهرة وتعودوا عليها منذ زمن طويل”.
التملك الجديد
يواجه المغاربة ظاهرة غياب “مول الحانوت” خلال فترات الأعياد، بحسب المتحدث عينه، بـ “شراء احتياجاتهم الخاصة قبل أسبوع من موعد المناسبة؛ وهي ممارسة جاءت عن طريق وعي مجتمعي يحاول من خلاله ساكن المدن الكبرى تجاوز الخصاص الذي تعرفه شوارع مدينته”.
وبخصوص أصحاب الدكاكين الذين يفضلون البقاء وتجنب الانزياح في ظاهرة “الهجرة إلى الجنوب”، يفسر المصرح لانزي بريس أن “هذا الأمر يمكن تعليله بوجود تفكك في العائلة الممتدة، أو فقدان أرض الأجداد، أو من خلال اندماج الأبناء في المدينة الكبيرة، خاصة إذا كان هذا الاندماج كبيرا يصل إلى أجيال، ما يجعل العائلة وبشكل أوتوماتيكي أصحاب الدكاكين يشهدون تملكا جديدا لأرض المدينة”.
يعود سعد إلى الانغماس تحت رنات أغاني الأطلس “العذبة” التي يطلقها هاتفه، مسترجعا بذلك ذكريات أرض الأجداد المجيدة (الريصاني)، وأوقات اللمة والعائلة، وأجواء الأعياد التي “لا تقدر بثمن”، قبل أن يستيقظ على وقع “قسوة الواقع” الذي أحدثته خطوات زبون قدم من بعيد، هو الآخر عاني من غياب “مول الحانوت” بحيه.
[ad_2]