إصدار جديد يبحث “مركزية الرؤية العلمية”

فنون و إعلام

[ad_1]

يعد اختراع المطبعة من لدن غولدسميث يوهان غوتنبرغ في ألمانيا نحو عام 1440م، نقطة بداية ظهور الحداثة من جهة الجانب التقني، فبفضل آلة الطباعة انتشرت التصورات والآراء المختلفة على المستويين العلمي والأدبي… الأمر الذي نتج عنه تشكل عقلية جديدة تأسست مع مرور الزمن طيلة ثلاثة قرون على مبدأ مركزية العقل في التفكير، لتجد أوروبا نفسها في القرن 19م تملك من القوة ما لا يملكه غيرها.

الحداثة الأوروبية في العالم الإسلامي في القرن 19م كانت موضوع اكتشاف بدءا برحلة رفاعة رافع الطهطاوي إلى باريز (-1873م) وكتابه الشهير “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”. فمنذ تلك اللحظة الفارقة، وموضوع الحداثة وما ارتبط بها من المفاهيم والتصورات عن طبيعة الكون والحياة والإنسان كان مثار جدل وأخذ ورد بين مؤيد ومعارض، فهناك من انبهر كثيرا بمقتضيات الحداثة وتبعاتها إلى درجة أنه يراها بعين القداسة التي لا تقبل أي نقد أو مراجعة أو تحليل أو إعادة نظر، وهناك من رآها أمرا دخيلا على تصورات البلاد والعباد، وهي مفسدة لأفكار الناس واعتقاداتهم وسلوكهم اليومي، في وقت رأى فيه آخرون أن الحداثة واقع محتوم لا مفر منه، فأمرها يرتبط بواقع التقنية التي تحيط بالإنسان من كل جانب وفي كل مكان، ومن ثم ينبغي التمييز بين الحداثة والتحديث.

فالحداثة هي كل ما اتصل بالتصورات العقلية لدى الإنسان وببنية الدولة، أما التحديث فهو كل ما اتصل بالتقنية في مختلف جوانب الحياة الاجتماعية، وقد ميز البعض بين الحداثة وروح الحداثة، فمع الحداثة نقع في الاتباع والتقليد، ومع روح الحداثة نجد أنفسنا في دائرة الإبداع والتجديد، وقد نجد البعض الآخر يستحضر في حديثه عن الحداثة الحديث عما بعد الحداثة.

الكتب والأبحاث التي اعتنت بفهم وتحليل العلم وما صاحبه من تطورات في مختلف مجالات المعرفة، وفي صلة ذلك بموضوع الحداثة، ليست كثيرة أو غير كافية بالقدر المطلوب في العالم الإسلامي، ومن هنا تأتي أهمية وفرادة كتاب الدكتور محسن المحمدي “الحداثة ومركزية الرؤية العلمية” الصادر عن دار أدب للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، ط.1،2022م. فالمؤلف بذل كل ما في وسعه ليقارب الحداثة من زاوية العلم وتحولاته وتأثيراته على الفرد والمجتمع عبر الزمن، الأمر الذي جعل متن الكتاب ينفصل عن المقاربات الأيديولوجية، سواء تلك التي همها تلميع صورة الحداثة أو تلك التي همها تبخيس صورتها.

الكتاب من الحجم المتوسط، يغطي 430 صفحة، ومن ثلاثة فصول: الفصل الأول: الحداثة بين السياق الأوربي والاستقبال العربي. الفصل الثاني: التأسيس العلمي للحداثة. الفصل الثالث: العلم (الفلك) وكونية الحداثة. فصول الكتاب ولبناته بعضها يفضي إلى بعض.

قد يظن البعض أن الكتابة حول موضوع الحداثة وإشكالاتها موضوع مستهلك، ولكن حقيقة الأمر أن هذا الموضوع له راهنيته ليس على المستوى المحلي فقط، بل على المستوى العالمي، ولكن كيف ذلك؟ هذا سؤال يتولد عنه سؤال آخر مفاده: ما الذي ساهمت الحداثة في أن يكسبه الإنسان اليوم؟

الإنسان يكسب العلم/ التقنية، فبتعبير مارتن هايدغر(– 1976) “العلم لا يفكر”، “فعلى رغم وهم التحكم في الطبيعة وفي الإنسان، الذي ما تنفك التقنية تنشره، وعلى رغم وهم الضبط والعقلنة والتنظيم الذي ما يفتأ العلم يرسّخها، فإنهما (التقنية والعلم)، سرعان ما يدفعان الإنسان نحو تشكيل مدخرات هائلة من الطاقة تنفلت من كل عقلنة، ونحو نهَم الاستهلاك الذي لا تحدّه حدود، فيجران العقل إلى أن يعمل ضد كل تعقل، بل إنهما قد يعملان في النهاية ضد الإنسان ذاته”. وعندما نتحدث هنا عن الإنسان ففي الأعم هو الإنسان الذي تشكل “جهازه المفاهيمي وفق هذا الاكتساح للأسلوب العلمي وتوغله في جميع مناحي الحياة بوعي أو لا وعي منه”. ومن هذا الذي كان يظن أن العلم في بعض من نتائجه سيكون سببا في معاناة الإنسان؟ “لا شيء كان ينذر عند قيام أول المعارف العلمية منذ بضعة آلاف من السنين بأن العلم سيواجه يومًا ما مخاطر التعارض مع مصالح البشر”.

القرآن لا يرجع المشكلة إلى العلم، بل يرجعها إلى الإنسان؛ فهو مصدر الفعل، فالقرآن منذ البدء ربط العلم والمعرفة بالفعل لدى الإنسان، أي بالقيمة الأخلاقية لديه، قال تعالى: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) “(العلق)، فهي قراءة في الخلق باسم الخالق، فمن الخالق نستمد الخلق والأخلاق، قال تعالى: “وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)” (النحل). فالإنسان عندما يعرض عن المثل الأعلى، لطارئ أو لظرف ثقافي أو حضاري معين، سيتيه ويفقد الوجهة، وقد يكون فعله سببا في شقائه، ويلقي بالتهمة على العلم والتقنية، وهو الوضع الذي عبرت عنه الآية، قال تعالى: “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)” (الروم).

ففي تقديرنا، أن فهم الحداثة من زاوية مركزية الرؤية العلمية، بمعزل عن المقاربات السطحية والأيدلوجية، ستجعلنا نفهم أكثر أبعادها الإنسانية، وأبعادها التي سارت ضد الإنسان ووجوده بشكل أكبر، فوضع حدّ لأعطاب ومنزلقات الحداثة ليس مسألة وعظ وخطاب أخلاقوي في المسجد أو الكنيسة أو الدير أو الجامعة بقدر ما هو مسألة كد وجد واجتهاد في تجديد فهم الوجود، بمعنى مختلف عما سبق، يحزم فيه الإنسان نفسه بمعونة الله، قال تعالى: “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (4)”(الفاتحة)، قبل أن يركب مركب العلم والمعرفة المعاصرة، وقد عبر هايدغر عن ذلك بقوله: “لن ينقذنا سوى الله”.

[ad_2]