[ad_1]
منذ إطلاقه أواخر عام 2022 إلى يوم قررت التعبير عن موقفي الشخصي بخصوص أثره على مجال الكتابة، فيما صدر في حق ChatGPT ما يكفي من الكتابات والمقالات على اختلاف غاياتها، منها التي انتقدت البرنامج الرقمي تخوّفا وخشية، ومنها التي رأت فيه المنقذ لمن تعبت يداه من التدوين وأصيب عقله بالإعياء من شدة التفكير، ومنها ما كانت رصينة في موقفها، إذ اختارت التريث بدل الحكم، وحينما قررت إظهار ما في جعبتها، تأرجحت بين الرؤية المستقبلية المتفائلة ونظيرتها المتشائمة.
اليوم، بعد تجربة شخصية لأداة ChatGPT ونظيراتها اخترت أن أشارك مع العموم خلاصة لموقف ذاتي لعله يساهم، من قريب أو من بعيد، في إغناء النقاش القائم. يهدف هذا المقال الذي يدمج بين التحليلي والشخصي إلى التفكير في الآثار المحتملة للذكاء الاصطناعي على الكتابة الأكاديمية من جهة، وعلى الكاتب بشكل عام من جهة ثانية. ستلبس السطور في بعض الحالات ثوب الحياد والموضوعية، لتستبدله بغطاء الموقف الشخصي في حالات أخرى.
الركيزة الثلاثية للكتابة الأكاديمية: الدقة والسلاسة والوضوح
من أول استخدام شخصي لأداة ChatGPT لاحظت تميّزها بثلاثة عناصر تمثّل محور الكتابة الأكاديمية: الدقة، والسلاسة، والوضوح. فإذا كان المنتج الأكاديمي يشترط هذا الثلاثي للتعبير الرصين عن الأفكار وبناء حجج صلبة فإن ChatGPT، حسب وجهة نظري، استطاع الاستجابة لهذه المعايير. إن أسلوب الكتابة المستخدم من طرف البرنامج في عملية صياغة الأجوبة يعكس جودة ملحوظة وكفاءة عالية. كلمات مختارة بعناية، جمل دقيقة خالية من الحشو تحمل أفكاراً واضحة وسهلة الاستخراج، سلاسة في الانتقال بين الفقرات والربط بينها باستعمال عبارات انتقالية، كلها مميزات لمستها طوال مدة استعمالي للبرنامج.
من برنامج ذكاء اصطناعي إلى مؤلف مشترك للمقالات
ضبطه هذه العناصر دفع مجموعة من الباحثين الأكاديميين إلى الاستعانة به في عملية صياغة مقالاتهم العلمية. ولعل الأمر الغريب في هذه المسألة متمثل في إدراج ChatGPT كمؤلف مشترك ((co-author في سلسلة من منشورات المجلات العلمية. إذ سبق ونشرت مجلة Elsevier مقالاً مشتركاً بالإنجليزية يحمل عنوان منصات الذكاء الصناعي المفتوحة في تعليم التمريض: أدوات للتقدم الأكاديمي أم سوء الاستخدام؟ ضُمّن فيه برنامج ChatGPT كمؤلف ثاني للمقال. ويتعلق الأمر نفسه بمجلة المكتبة الوطنية للطب (National Library of Medicine) التي أصدرت في دجنبر 2022 مقالاً علمياً مشتركاً بين باحث وChatGPT بعنوان “Rapamycin in the context of Pascal’s Wager: generative pre-trained transformer perspective“.
أنتج إدراج ChatGPT كمؤلف ردود فعل صارمة من طرف بعض المجلات العلمية، إذ أضحت أكثر حزماً مع المقالات التي تتضمن مشاركة كتابية لأحد برامج المحادثة المشتركة، وكاستجابة مقابلة، حدّثت سياسة النشر الخاصة بها. فمثلاً، منعت كل من مجلتي Elsevier و Nature إدراج ChatGPT، أو أي برنامج مشابه، كمؤلف مشارك، بيد أنها سمحت باستعماله في الكتابة شريطة الإشارة للفقرات المحررة من طرفه. من جهتها، تبنّت مجلة “Science” توجهاً أكثر صرامة (الرابط)، إذ منعت منعاً تاماً إدراج ChatGPT أو أي أداة ذكاء اصطناعي أخرى كمؤلف مشارك؛ وفي إجراء أشد، اشترطت حصول الباحث على موافقة الناشر قبل استخدام هذه الأدوات (الرابط).
زوبعة في غضون ستة أشهر.. وثورة ممكنة تلوح في الأفق
أثار هذا “الكاتب-الباحث الجديد” زوبعة من النقاشات حول مدى استيفائه شروط البحث العلمي وقدرته على تحمل مسؤولية ما بعد النشر، كما أنه فتح باب التنبؤات حول طبيعة ونوعية التحول المحتمل على مستوى البحث والإنتاج العلمي في قادم الأعوام. كانت ستة شهور التي مضت على إطلاق النسخة الثالثة GPT-3، وثلاثة على نظيرتها الرابعة GPT-4، كافية لخلق نقاش داخل الحقل الأكاديمي تضاربت فيه المواقف بين مؤيد للاستعمال ورافض له. وعقدت مجموعة من الندوات والطاولات المستديرة لتصوّر مستقبل البحث العلمي بعد ظهور هذا الفاعل الجديد المتمكّن من أبجديات الكتابة الأكاديمية. وحسب تقدير شخصي، يتجاوز الدافع المحرك قضية الكتابة الأكاديمية إلى مدى قدرة النسخ القادمة من البرنامج على ضبط أساسيات منهج البحث العلمي. وتحضرني الندوة التي نظمتها جامعة السلطان مولاي سليمان ببني ملال وترأسها وزير التعليم العالي ميراوي عبد اللطيف من أجل التفكير في “آثار ChatGPT على منظومة التعليم العالي” كمثال في هذا الصدد.
استناداً إلى التجربة الشخصية في استعمال أداتين من أدوات الذكاء الاصطناعي (ChatGPT وPerplexity) وصلت إلى قناعة مفادها أن الطلبة الحاليين أو المستقبليين ملزمون بالتمكن من هذه الآليات الرقمية الجديدة؛ فإذا كانت عملية تطوير البحث العلمي عبارة عن سيرورة تستجيب لتغيرات وتطوّرات الواقع، وإبان “انبثاق” متغيّر جديد ذي ثقل معرفي بارز وقوّة فكرية واضحة، يجب على المفكر وصانع القرار العمل على دمج هذه الآليات في العملية التعلمية الأكاديمية. فمثلاً، وبدل استخدام طرق البحث الكلاسيكية عن المعطيات الكمية أو الكفية قد يلجأ الباحث إلى النسخة المطورة من محرك البحث Perplexity والقائمة على GPT-4 ليطوّر ويحسّن من نتائج عملية البحث. فبمقارنة النتائج المحصّل عليها مع محرك البحث Google تتّسم نتائج برنامج Perplexity بالدقة.
الأمانة الفكرية.. الوجه الآخر
إذا كان يستلزم تطوير الحقل الأكاديمي تنويع المحفظة الأدواتية البحثية فإنه يستوجب أن يشمل أيضاً إيجاد سبل لضمان احترام المبدأ المؤسس للعمل الأكاديمي “الأمانة الفكرية”. إذ أبانت التجارب المعاشة عن الحاجة الملحة للتصدي للاستعمالات غير الأخلاقية لآليات الذكاء الاصطناعي. في جامعة ستراسبورغ بفرنسا مثلاً قررت الإدارة إعادة الامتحان بعد أن أقدم مجموعة من الطلبة على استخدام أداة ChatGPT للإجابة عن الأسئلة. ولجأت بعض المدارس في نيويورك إلى الصيغة التقليدية لإجراء الامتحانات باستعمال الورقة والقلم.
نتيجة تكرر مثل هذه الممارسات سواء في الحقل التعليمي أو المهني كان من الضروري توفير حلّ للتصدي لها. ولهذا الغرض، قامت شركة OpenAI بتطوير برنامج يهدف إلى تحديد طبيعة صاحب النص (نص بشري أم نص مكتوب من طرف الذكاء الاصطناعي). ورغم ذلك أبان البرنامج المسمى “AI Text Classifier” عن محدوديته. فمن الممكن مثلاً صياغة النسخة الأولية للنص بشكل يدوي، واستخدام أداة من أدوات الذكاء الاصطناعي لتنقيحها وتجويدها. وفي هذه الحالة سيكون من الصعب على “كاشف الذكاء الاصطناعي” تحديد صاحب النص.
إلزامية تدبير التحديات المطروحة
لهذا، يصبح العالم التعليمي الأكاديمي أمام تحديات متعددة: أولاً، مصداقية التقييم، باعتبار أن الطالب أصبح قادراً على إنجاز أعماله الأكاديمية دون إيلاء أهمية لمبدأ الأمانة الفكرية، فتقييم قيمة العمل المنجز سيطرح إشكالاً محورياً يتعلق بهوية صاحبه من جهة، والنقطة الممنوحة من جهة ثانية. ثانياً، وسائل التقييم. وأعتبر هذه النقطة مهمة لأنها تترجم القدرة البشرية على ابتكار طرق جديدة لتفادي اللجوء إلى أدوات التقييم التقليدي. بشكل أبسط، قد يلجأ بعض الأساتذة إلى الامتحانات الشفهية كإجراء بديل، أو قد يسلك البعض مسار مدارس نيويورك ويلغون التكنولوجيا بشكل كلي. بيد أن هذه الإجراءات تظل محدودة وكلاسيكية أولاً، وقد تعطّل السيرورة الانتقالية الرقمية للبحث العلمي ثانياً. بمعنى آخر، ربما قد تُقُدِّمَ خطوة للأمام بعد ظهور أدوات الذكاء الاصطناعي، ولكن قد نتراجع خطوتين للوراء بسبب كلاسيكية الإجراءات البديلة.
نحو إعادة التفكير في أدوار الكاتب
إذا كان العالم الأكاديمي أمام رهان حسن تدبير التحديات، فهنالك تحد اخترت عزله عن البقية لأنه يشمل عالم الكتابة بأسره. قد يحتاج عالم الكتابة إلى إعادة التفكير في دور ومهام الكاتب في المستقبل القريب. بتعبير مغاير، إذا دفعتنا وسائل الذكاء الاصطناعي الحديثة إلى تصوّر مستقبل الكتابة بين ثنائية “الإيجابي والسلبي” الكونية، فيجب أن تدفعنا أيضاً إلى إعادة التفكير في “من هو الكاتب؟”. قد يكون من الغريب بعض الشيء قول إن الكاتب سيتحوّل إلى “مهندس”، أو إن المستقبل القريب سيشهد إصدار دبلومات “مهندس كتابة” أو “تقني كتابة” يمتاز حاملها بالقدرة على التعامل المتقن والبارع مع أدوات الذكاء الاصطناعي. بتصور أعمق، قد تصبح مهام الكاتب الحديثة مشابهة لدور “المهندس” في ورش البناء، أو “المايسترو” في حفلات الأوركسترا، أو “المدير” في المؤسسة، أو أي مثال آخر يعكس تراتبية في الأدوار وتأدية لمهام يأمر بها رأس الهرم ويطبّقها المتلقّي.
تحرّر من القيود
منذ اليوم، لم يعد الكاتب حبيس ترسانته المفاهيمية أو بنيته الكلماتية، لقد أضحت أمامه ملايين من العبارات، والتعبيرات، والأوصاف، والتحليلات، القادر على استعمالها في عملية صياغته للكتابات. ومع كل مرادف إضافي يُطرح أمامه يتنوع التعبير.. يُقدّم طلباً، فيتلقى جواباً، قد لا ينال إعجابه في الوهلة الأولى، ولكن بعد سلسلة من التحسين والتنقيح سيحصل في الأخير على “منتج” يلبي انتظاراته. في السياق نفسه سيتحرر الكاتب من العلاقة التي تربط إنتاجيته بالمزاج الجيد أو الظروف المساعدة على العطاء. فباعتبار الذكاء الاصطناعي سيؤدي الجزء الأكبر من المهمة فإن مهمة الكاتب ستنحصر في التصحيح تارة، والتكميل تارة أخرى. ويشمل هذا التحرر الأفراد الذين يعانون من صعوبة في التركيز، أو يجدون عسراً في تحويل الفكرة إلى فقرة، والفقرة إلى نص (متلازمة الصفحة البيضاء)، أو حتى أولئك الذين ينتظرون الإلهام للشروع في الكتابة (من الممكن الحديث عن مصطلح “رقمنة الإلهام” في المستقبل).
ضرورة الإسراع ولزوم التحرك
إن الكتابة، على اختلاف أنواعها، أمام مفترق طرق، والكتابة الأكاديمية ليست سوى جزء من منظومة كاملة في صدد التحول. بالاستناد إلى تجارب وأمثلة التاريخ، يَظْهَرُ أن الانتفاع من “الجديد” ومحاولة احتواء سلبياته- التي لا ينكرها الكاتب بتاتاً -قد ساهم في خلق القيمة المضافة مهما كان مقدارها، أما التقوقع في ركن التخوف والتوجس، وانتظار قرار الآخر بدل المبادرة الشخصية، قد أضاع على الحضارات فرصاً للرقي والازدهار.
تستوجب الوضعية الحالية تنسيقاً رصيناً بين المفكر وصانع القرار. فربما قد بدأنا في وضع لبنات التفكير في توفير فضاء للنقاش السليم (وإن أمكن اعتبار هذا المقال مساهمة شخصية خارج حدود الورقات البحثية)، ولكننا سنحتاج لدخول حيّز التنفيذ من أجل الاستفادة الحصرية من الفرصة المتاحة أمامنا.
(*) باحث بالمركز العربي للأبحاث بالرباط
[ad_2]