[ad_1]
“المعنى ليس محايثا للأشياء والكائنات”؛ بل “تمثيلٌ رمزي في المقام الأول” أو “صياغة ثانية لوجود لا يمكن أن يكشف عن نفسه إلا من خلال دلالته في الذهن”، وفق السيميائي سعيد بنكراد الذي يبحث في أحدث كتبه عن التأويلات الممكنة لوقائع تصنف ضمن أطر السياسة والأيديولوجيا والعقيدة، و”تتحكم في سلوك الناس في الفضاء العمومي” دون أن يدركوا كُنهَها.
وتابع كتاب “التأويل وتجربة المعنى”، الصادر عن المركز الثقافي للكتاب، شارحا بأن مقصده “البحث في ذاكرة الكلمات أولا، ثم في ذاكرة النصوص ثانيا، وفي ذاكرة أشكال حضور الناس في الفضاء العمومي، أو في ما له علاقة بما استبطنه الإنسان عن حالات قلق الولادة والحنين إلى أصل ولّى ولن يعود أبدا”.
في كل هذه المساحات يبحث بنكراد عن “معانٍ أخرى حاول الإنسان إخفاءها أو تجاهلها أو لم ينتبه إليها قط”، بـ”تفكيك لليومي والمألوف، وتفكيك الخطاب الاحتجاجي أيضا”؛ لأن “الأشياء عارضة في العين، أما وجودها في المعنى فثابت في الذاكرة”. ثم أضاف: “الإنسان علامة، أي منتج من منتجات الثقافة، وليس حدثا عارضا في الطبيعة”.
وواصل السيميائي: “أهواؤنا هي أصل لغاتنا، فالأحقاد والحب والغضب هي التي انطقتنا. وكان من الضروري إعادة النظر في الكثير من المعتقدات أو الممارسات التي لا ينتبه إليها الناس، أو لا يدركون وجودها”.
حضور الكون الإنساني في الذاكرة رهين، حسب المصدر ذاته، بـ”وجود “معنى” يبرره؛ فداخل هذا المعنى فقط يستطيع الإنسان تنظيم جنسه ونسله وأقاربه وحياته وموته، ومن خلاله يحكم ويصنف ويرفض ويقبل أيضا”، ومن خلال هذا كله “يخرج من ذاته، لكي ينصهر داخل فضاء موضوعي هو السبيل إلى تعميم الذاكرات الفردية، ومن خلال هذه الموضوعية يستطيع أيضا الإمساك بالزمن “مُشْبَعا” بانفعالات شتى ويُسقطه على مستقبل يستثير الأمل والترجي، وعلى ماض فيه الحنين أو الندم والتأسي، ويحتفي بلحظات الحاضر في حياته”.
وتوسل بنكراد بـ”التأويل” لعله “يرفع بعضا من لبس الانتماء إلى العقائد والإيديولوجيات المختلفة. فما نقوم به وما نمارسه ليس بدهيا، كما توهمنا بذلك قناعاتنا في الدين والسياسة أو الثقافة عموما، فالكثير منها يعود إلى رغبات أو صدمات نسيها العقل، لكن جُوانيتنا استبطنتها وحافظت عليها، بل وسربتها إلى سلوكاتنا وإلى مواقفنا ورغباتنا. فنحن نولَد ونكبر ونموت وفق طقوس نعتقد أنها جزء من المعيش، والحال أنها ليست سوى بقايا أسطورية في سلوكنا”.
“لماذا الاهتمام بالتأويل؟ لأن الإنسان يحضر في العالم “من خلال ما تقوله الكلمات عنا، ونسكن أجسادنا من خلال ما يكشف عنه الحجم الدلالي فيها”، وحتى النفعي في الحياة “لا يمكن أن يدرك إلا ضمن ما تبيحه العقائد والأحكام الاجتماعية”؛ وهنا يقدم الكتاب مثال الأسماء الشخصية التي “لا يمكن أن تستقيم في التداول وفي السجلات المدنية إلا إذا كانت منتقاة من مستودع تبيحه السلطة، أي تستقيم داخل شرعية الدين أو شرعية الانتماء الطائفي أو العرقي”، فلا يسمي، مثلا، المسلمون الشيعة أبناءَهم عمرا وأبا بكر.
ويَعبُر بنكراد إلى المعنى في العالم الرقمي وتأويلاته، مسائلا “النمط الجديد الذي تبناه الناس في تصريف قضايا السياسة والاحتجاج في الفضاء العمومي”، و”الصيغ الزمنية الجديدة التي يحتكمون إليها اليوم في تدبير عيشهم”.
حالات الافتراض هذه “حلت محل واقع لا يُشكل عند الناس سوى ممر عابر نحو عوالم تصنعها الصورة. فما يتم استبطانه ضمن بداهات الوجود اليومي لا يمكن التشكيك فيه. فلم تعرف البشرية في تاريخها الطويل أغرب مما هو سائد اليوم في حياتنا”.
ونبه بنكراد إلى أن “الناس “يشترون” من السوق زمنا جديدا يستهلكونه في الكلام وفي ابتداع حالات تواصل لا تواصل فيها في الغالب”؛ حتى “تحول الكثير منا إلى عبيد في زمنية لا تنتج سوى الكلام”، و”فقدنا متعة الصمت”.
من هنا، تنبع الحاجة إلى “تأويل النظرة لكي تستقر في الوجدان باعتبارها رمزا؛ أي ما ينتج دلالة مضافة تتجاوز الرؤية الصامتة في العين”؛ فالصورة “حالة من حالات الوعي “الحسي” بالذات وبالوجود. إنها التعبير عما يتسلل إلى العين وتدركه باعتباره صياغة بصرية تتضمن قصدا إنسانيا يجب الكشف عن مضامينه”. كما أن الإنسان “لا يصور كائنات أو أشياء أو ظواهر”؛ بل “في واقع الأمر ننتج معان تقينا شر الأشياء والكائنات.. إننا نؤول محيطنا ونعيد إنتاجه في أفعال العين أو وفق تقطيعاتها الدلالية المسبقة”.
[ad_2]