تشابهات “صلصة الأرز” وتوابل فيلم تايلاندي .. الطبخ يُذكي الصراع الطبقي

فنون و إعلام

[ad_1]

ما هو الحدث الصغير الذي يبدأ به الفيلم ويشرح سمات الشخصية من اللقطة الأولى؟.. يد تكدح بأقصى سرعة، جبين يعرق وساعة تتكتك ونار تتراقص وجياع يتزاحمون حول المقلاة المشتعلة وينتظرون دورهم، بينما الطباخة الموهوبة تزيد سرعتها لتوفير الطلبيات. فيلم Hunger، أبريل 2023، من إخراج التايلاندي سيتييز كونغولزيري.

في فضاء مناقض، يرفع الطباخ السلطعون حيا ليراه الضيوف، يقطع القشرة الخارجية الصلبة. ينظر الضيوف الأغنياء باطمئنان لأن ما سيطبخ لهم نادر طازج. يهم أحدهم بتناول لحم السلطعون فيوجهه الطباخ ليغمسه في الصلصة، يفعل فيحصل على لذة لا نظير لها. السر في الصلصة لا في السمكة. السر في ديكور صحن التقديم الذي صار كصخر شاطئ.

يتغير الديكور إلى مطعم شعبي، حيث شابة وسط اللهيب تطبخ الشعيرية في مكان ضيق، بينما يتزاحم الزبائن لاستلام الصحون والاستمتاع بالصلصة. السر في الصلصة لا في الأرز.

هذا فيلم تايلاندي قادم من أكثر مناطق العالم اكتظاظا. يتصرف الطباخون بانضباط عسكري، هكذا يعرض الفيلم تجليات الانضباط في الثقافة الشرق- آسيوية. لا توجد ديمقراطية في المطابخ. حين يكون هناك طباخ مطيع يبالغ في إظهار الولاء ينكشف لاحقا أن هناك علاقة طردية بين إظهار الطاعة والجاهزية للغدر.

لكل مطبخ واجهة براقة وخلفية مظلمة. الطبخ هو المهنة الأكثر طلبا. في العالم ثمانية مليارات فم تحتاج مليار طباخ. لمعرفة وزن الطباخين تكفي نظرة على أشهر طباخ حاليا، صار قائد ميليشيا فاغنر، إنه الرفيق المافيوزي يفغيني بريغوجين الذي كان “طباخ بوتين”، ويتولى تحضير الطعام لضيوف الديكتاتور الروسي. من تذوق طعام الأغنياء يجد طعام الفقراء مقرفا قذرا.

يقدم الفيلم حكاية فتاة عادية، لا تثير الانتباه بجمال شكلها، بل بمهاراتها. تعيش حكاية تعليم وتحقيق طموح، تناضل بنزاهة لتكون الأفضل. يتماهى المشاهد مع الطباخة إلى درجة أنه يعيش أحاسيسها ويفرح لفرحها. منذ شاهدتُ الفيلم صرتُ أجرب الطبخ بطريقة جديدة.

نرى البطلة وسط اللهيب والطلبيات التي لا تنتهي؛ إنها ناجحة في مهنتها، وهذا ما يفتح لها المجال لتترقى حين تبناها طباخ مشهور، أعجب بطريقتها في صناعة صلصة الأرز.

تستقطب المطابخ الراقية- أي الغالية- الطباخين المهرة لخدمة الأغنياء، تستقطب من يرهقون أنفسهم ليحظوا بفتات. يفتتن العبيد بخدمة الأسياد. خدمة الأغنياء والعيش بقربهم وكسب المال لا يسمح للطاهي بأن يتصور نفسه وقد صار منهم.

نرى المدينة والطباخة من فوق ومن تحت، حذاء قذر، ثم نرى المدينة من فوق: عمارات زجاجية وخدم بأحذية بيضاء. يخترق وعي طبقي حاد الفيلم، وهو ما تفتقر إليه أفلام البلدان التي تخضع فيها السينما للرقابة للحفاظ على انسجام اجتماعي وهمي.

يحكي الفيلم سيرة طباخ ابن طباخة مقهورة يتبنى الطباخة الشابة التي تعتبره قدوتها. في الثقافة الشعبية المغربية تسمي الأمهات عملهن اليومي في المطبخ “الشّقاء”، شقاء النساء لإعداد الطعام يوميا. تسللت الكاميرا في الفيلم إلى مكان وبؤس عمل بروليتاريا المطاعم. الكاميرا مثل الآلة البخارية لم تترك مكانا لم تكتسحه. ستغير الكاميرا العالم وهي تتسلل إلى الأماكن التي بقيت في الظل لآلاف السنين. لا يعرف الذين يتناولون مئات ملايين الوجبات السريعة يوميا كم يبذل من جهد في حفر صغيرة لإعدادها، لو عرفوا قد لا يتناولونها.

تروي المطابخ أنثروبولوجيا الشعوب. لقد أنهت الزراعة والطبخ في القِدْر مرحلة الإنسان الصياد- الجامع hunter-gatherer. في مرحلة استقرار البشر دائما هناك لص في المطبخ، هذا ما تكشفه رسوم “توم وجيري”. في المطبخ منافسة أيضا، فمن يفشل في إعداد صلصته يحاول إفساد صلصة الغير.

يعرض الفيلم مطبخين، فضاءين، مستشفيين، طبقتين تفصلهما مسافة ضوئية لكن تعبرها الشابة بفضل موهبتها في الطبخ. يترقى الفرد بفضل موهبته، يحسّن وضعه. هكذا تنقذ الموهبة الفرد الفقير من الحتمية الاجتماعية.

جاء المنقذ من مطبخ أكبر. تنتقل البطلة بين الفضاءين وتخضع “لاختبار أداء” في إعداد الصلصة.

أظهر النصف الأول من الفيلم تصاعد إعجاب الطباخة الشابة بالأغنياء؛ تحبهم وتتمنى أن تكون منهم.

من لحظة ذبح الطائر النادر ستبدأ الشابة في اكتشاف حقيقة الأغنياء. حققوا امتيازاتهم بخرق القانون وليس بفضل ذكاء أو مهارة. يمضي النصف الثاني من الفيلم في اتجاه مضاد، ستبدأ الشابة في كره الأغنياء، ستبحث عن طريقها بعيدا عن مُعلمها في صنع الصلصة. من هنا ينبع طعم صلصة الفيلم.

هذا الأسلوب هو الذي صنع صلصة الفيلم.

يقول المخرج البولندي زيجمونت هبنر إن “المخرج ما هو إلا إنسان يعدّ الصّلصة للسمك، وسيجيء الوقت عندما ستصبح فيه ‘الصلصة’ أهم من السمكة نفسها”، (كتاب “جماليات فن الإخراج”، ترجمة: هناء عبد الفتاح، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1993).

يضيف هبنر أن هذا الكلام كتب في منصف القرن التاسع عشر، وصار حقيقة في بداية القرن العشرين، في المسرح كما في السينما، وهو حقيقة في بداية القرن الواحد والعشرين.

السر في الصلصة وليس في الأرز والسمك والحكاية. السر في أسلوب صناعة الصلصة وتصوير الحكاية وطبخها. الأسلوب في الفن كالتوابل في الطعام.

لقد اشتهرت الشابة بطريقتها في استخدام النار في طبخها. استخدام النار هو الأسلوب في الفن. الأسلوب في السينما هو معادل أثر الطاقة في المادة، حسب أندري بازان.

حين تنتقل الشابة إلى مطبخها الخاص يطلب منها التوقف عن تقليد صلصة معلمها؛ عليها أن تصنع صلصتها تبعا لما تتقنه هي. التقليد مضر في الطبخ وفي الأفلام. من يسرق وصفات ولقطات يزعم حين ينكشف أن في ذلك لمخرج راسخ.

ليس كل ما يُطبخ يستحق أن يؤكل. ليس كل ما يُصور يستحق أن يشاهد. الطباخ الذي يعتبر نفسه أذكى من الصلصة التي يعدها يفشل. المخرج الذي يعتبر أنه أذكى من الحكاية التي يعرضها على الكاميرا يُنتج الملل.

[ad_2]