[ad_1]
الأحد 30 أبريل 2023 – 05:15
“لن يتغير في أرض نوران شيء مادام الحكاؤون يقولون ما لا يفعلون، ويكذبون على أنفسهم وعلى الآخرين بتلك الحكايات” -أرض الحكَّائين، حنان أحمد الفياض، ص 42.
يستوقفك العنوان وتشدك صيغة المبالغة في كلمة “الحكَّائين” التي تلفك برفق نحو هذه الأرض؛ أرض تستدعيك للغوص في طينتها المختلفة عن غيرها، أرض يمارس أهلها غواية الحكي ويمارون من خلالها ما يمارون من قيم لا يملكونها، يمارسون مهنة الغاوين الذين يقولون ما لا يفعلون، ويهيمون في أرضهم بما لا يشعرون!
اختارت حنان أحمد الفياض “الحكَّائين” بصيغة المبالغة عمدا، وأقرت بذلك إقرارا؛ لأنها صيغة تلصق الفعل بصاحبه وتثبته عليه، ولما لهذا العنوان من دقة المعنى وقوة الدلالة، ناهيك عن تثمين للدور الذي يقوم به الحاكي، الذي يعمل على نقل الحدث مستثمرا كل أدواته وآلياته مخلصا لخلفياته ومؤمنا بقيمه.
إن الحكَّاء على صيغة الفعَّال هو شخص منذور بالحكي، موقن بجذب المتلقي له، مؤمن برسالته، متشبث بقيمه؛ لكن الحال في رواية “أرض الحكّائين” أن الحكَّاء وهم كثر -بصيغة الجمع- هم أهل نوران، مخالفون لكل ذلك، فهم لا يؤمنون برسالتهم، ولا تعني لهم القيم التي يدعون لها شيئا، يمتهنون الحكي لكسب المال، وإن كان ذلك على حساب ما يقولون وما يفعلون.
إن قوة رسالة حنان أحمد الفياض تكمن في هذه الجمالية التي جعلت الكشف عن هذه التناقضات في المجتمع العربي تمر عبر أقدم مهنة مارسها العرب، الشعر والحكي والخطابة، وهم جعلوا منها ديوان أخبارهم في سالف أزمانهم، صحيح أن الثقافة العربية عرفت التدوين بعد حاجتها لجمع القرآن وتوثيقه، والحديث الشريف وتخليصه من الموضوع والضعيف وغيره؛ إلا أن هذه الثقافة نفسها، فطنت من خلال احتكاكها بالأمم المجاورة إلى أهمية الكتابة والتدوين، وخصوصا أن الكتاب الحكيم دعا إلى الكتابة والتوثيق، لئلا تضيع الحقوق وتغمط الواجبات، فالحكي يبقى ثقافة شفهية، ويظل إرثا في ذاكرة جماعية لا يوثقه سوى إعادة حكيه، وعندما تطاله السنون يتغير بتغير الحاكي كل حسب روايته ورؤيته للحدث.
لكن العرب لم ينكروا قيمة الحب التي أنكرها أهل نوران بهذه القوة، لأنهم يؤمنون بأن الضعف الذي يلبس الإنسان جراء الحب، جعلهم ينفرون منه رجالا كانوا أم نساء، إن الحب الذي سيذل صاحبه ويسلبه القوة التي تمنحه التمكين والمنعة، لا حاجة لأهل نوران به ولا طائلة لهم منه، إن امتلاك القوة كان بطل الرواية بامتياز، ولا يلتقي الحب مع القوة في أرض نوران، وكل المنبوذين من أهل نوران ساقهم الحب لمدارك الذلة والتهميش والفقد والاندثار.
لم تحد الرواية عن لغة العرب فهي في فصاحتها وأناقتها وقوتها تجعلك مشدودا منذ البداية مشدوها لتصل إلى محطة النهاية، في هذه الرواية امتزج المضمون والمتن الحكائي مع اللغة الفياضية الخاصة بحنان أحمد الفياض، لغة أنيقة مهذبة مطواعة للغرض، مطواعة للتجربة الإنسانية، للرسالة التي تدعو لها الكاتبة وتدافع عنها بكثير من الذكاء والجدية والاحتراف، وبذلك لم تكن صيغة المبالغة التي تلقفك في العنوان بالمجانية أو العفوية؛ بل هي مفتاح كل الرواية ومقصدها؛ الغلو في الحب، والغلو في الحكي، والغلو في اعتناق القوة والسلطة، وهي تتكرر عبر صفحات الرواية على وزن فعّال: الفوّاز – العمّار – العبّاد – بكّاءة – السنّاء… لتذكر القارئ بمقصدية النص، فالحكي إذا لم يحمل صاحبه من خلاله قيما يدافع عنها لا قيمة له ولا طائلة منه، وإن صار كثير الحكي متخصصا فيه ماسكا بزمامه، مشهورا به بين قومه وعشيرته.
[ad_2]