[ad_1]
وأنت تلج المحطة الطرقية الجديدة للرباط، أو أية محطة للنقل الطرقي بالبلاد، خلال هذا الأيام القليلة التي تفصلنا عن العيد، ضع قلبك خارجا، حتى لا تتأذى مشاعرك بحيرة الناس، بشرودهم، بالخوف الذي يعلو ملامحهم. تتقدم شيئا فشيئا داخل المحطة، وتزداد التعابير عن الرهبة من صعوبة الحصول على تذكرة، من استحالة عملية السفر، ومن تعثر قضاء عيد الأضحى في دفء العائلة وما يحمله ذلك من روابط حميمة.
ربما “شبه الازدحام” و”شبه الاكتظاظ” هي الكلمات الأكثر مصداقية للتعبير عما تشهده حركية السفر بالعديد من مدن المغرب خلال الأيام الأخيرة التي تسبق إحياء شعيرة عيد الأضحى. مشاهد عادية وأخرى غريبة. تراشق بالصراخ؛ تلك الوالدة المسنة التي تحمل فوق ظهرها “خنشة” صغيرة، وتلك المرأة التي تنتظر طابورا طويلا للحصول على تذكرة من ورق قد تكون أقصى طموحاتها، وذلك الأب الذي يطارد طفلته حتى لا تضيع منه وسط الناس… وذاك الشاب الذي يتخذ من متاعه مقعدا.
بمجرد ولوج انزي بريس إلى المحطة حوالي الخامسة بعد الزوال، استوقفنا صراخ رجل مسن، يبلغ من العمر حوالي 70 سنة، يحتج بقوة على ثمن التذكرة المرتفع، وبإصرار الشيوخ يدعو الرجل الناس إلى مقاومة الاحتقار، والتعاضد لنيل الحق و”ضرب جشع أصحاب المأذونيات”، كما يقول. يستنكر غلاء “الخروف” وغلاء “السفر”، وغلاء كلفة الحياة.
عنف بنيوي
قصدنا شابا تبدو من ملامحه نرفزة واضحة. بمجرد ما فتحنا معه أطراف الحديث، ظهر الغضب في عينيه. صرح قائلا: “غريب ما نعيشه كل سنة من عنف بنيوي في المحطات الطرقية”، وأضاف أن “معظم شركات النقل لا تعتبرنا بشرا في هذه الظرفية، تستمر بلا رحمة في استنزافنا، وبلا ضمير في الاسترزاق من مشاعرنا الدينية والعائلية”، مشيرا إلى أن “هذا الاحتقار السنوي يزعج إلى درجة لا يمكن تصورها، بما أنه استمرار لمعاملتنا كقطيع ليس إلا”.
هذا الشاب اسمه نعمان، يبلغ من العمر 26 سنة، كشف لانزي بريس أنه قدم إلى المحطة منذ الثانية عشرة زوالا، ولم يقتن التذكرة إلا بشق الأنفس نحو مدينة الراشيدية على متن حافلة ستقلع في التاسعة ليلا، وظل في المحطة طيلة تلك الفترة منتظرا، وقال: “رجال الأمن الخاص قرب شبابيك التذاكر لا يرشدون، لكنهم يعطون أوامرا بملامحهم المتجهمة وتعابير وجوههم العنيفة؛ هكذا هي الحكاية: من عنف إلى آخر”.
صادفنا في جهة أخرى فتاة تصرخ في وجه أحد المسؤولين عن حافلة ما. اسمها مريم. قالت وهي تتماسك نفسها حتى لا تبكي من شدة الغضب: “تأخرت الحافلة بأكثر من نصف ساعة، وحين أتت، لم تكن تلك الحافلة التي اقتنينا تذاكرها، أحضروا لنا حافلة رثة وقديمة بلا مكيف. لا أكاد أستوعب كيف يعبث بنا أرباب شركات النقل خلال فترة العيد”، وزادت منددة بما اعتبرته “استغلالا لشوقنا لعائلاتنا وقلقنا من العلق في المدن”.
سكتت مريم قليلا ثم واصلت حديثها إلى انزي بريس: “عشت يوما قاسيا. قلبي بدأ يضرب وأنا في الطابور خلال اليوم لأحصل على التذاكر. الكل كان خائفا من فشل عملية تحصيل تذكرة؛ والآن أشعر بخوف شديد أن تتطور الأمور إلى الأسوأ وتلغى الرحلة”، مؤكدة أن “بعض الشباب انزعجوا وكادوا يتشاجرون مع السائق، وتوجهوا نحو خدمة المراقبة الطرقية، التي تتيحها محطة الرباط الجديدة. لم يكن بوسع أحد منا أن يغير الحافلة، نراهن على الوصول وهو كل ما نفكر به”.
العيد والقلق
لم تلغ رحلة حافلة الشابة مريم، وذهبت في اتجاه مدينة الريش؛ لكن… مريم، كما كل الركاب معها، ذهبت تحمل معها شيئا من “الحسرة”، ومن “الخيبة”، بما أن ما عاشته في محاولة السفر هذه سيبقى ذكرى فيها بعض من ألم. بيد أنه في المقابل تصر سيدة أربعينية، متوجهة إلى مدينة فاس، على أن تبتسم، أن تستهزئ بما يحدث وأن تعاند القلق العارم في المحطة.
قالت هذه السيدة، نصف المكتنزة، في حديثها إلى انزي بريس، إن “القلق يقتات من الصحة بكاملها، وأنا يا ولدي لست قادرة على تحمل العناء أو الضجيج. اكتفيت”، مشددة على أنها غير معنية بالأجواء شبه الفوضوية الدائرة بقربها، لكونها لا تمسها مباشرة. وقالت في النهاية: “المحطات تكون مخيفة خلال هذه الفترة، ومحطة الرباط الجديدة آمنة، لم نعد نخشى أن نتعرض للسرقة أو أن يقوم بائع التذاكر بإخفاء بعضها لبيعها بثمن مرتفع جدا، مع أن الأثمنة طبعا مرتفعة هذه المرة أيضا”.
وإذا كانت هذه السيدة غير معنية بالضغط الذي يحدثه النقل بين المدن خلال العيد، فإن رجلا ثلاثينيا، اسمه مهدي، استجمع صبره قليلا وأطلق تنهيدة كأنه يحمل أثقالا من الأخبار في قبله ليقول: “تخلق لي هذه الأجواء ضغطا لا يمكن تخيله. كلما ذهبت إلى المحطات للتوجه نحو بيت العائلة في مراكش، أحلف أنها ستكون المرة الأخيرة التي أتنقل فيها عبر الحافلات العمومية، لكونهم يمعنون في احتقارنا وإذلالنا في هذه الظرفية بالذات”.
كما اعتبر مهدي أن “النضال في هذه الظرفية لا يفيد كثيرا. نكتفي بالصراخ والاستنكار، صيحات نخرج عبرها آلامنا الدفينة التي تسببوا لنا فيها حتى ربوا في قلوبنا حقدا على شيء يسمى الحافلات العمومية”، لافتا إلى أن “التفكير طيلة الوقت، خاصة في الأيام الأخيرة، في التذكرة وضرورة توفيرها يخلق قلقا وجوديا لسنا في حاجة إليه، لكونه يربك ويتلف العديد من الخيوط. لهذا، نصبر على كل ما يواجهنا في المحطات لكي نصل إلى بيوتنا وعائلاتنا؛ فقط”.
تحديات نفسية ملفتة
ما هي الكلفة النفسية التي يدفعها المغاربة المسافرون في هذه الظرفية؟ سؤال نقلته انزي بريس إلى محمد كحلاوي، اختصاصي في العلاج النفسي، الذي حذر من عدم أخذ التحديات النفسية التي يعيشها المغاربة بسبب التنقل العمومي خلال كافة المناسبات الدينية الكبرى، من قبيل عيد الأضحى، على محمل الجد، موضحا أن “حجم الأضرار النفسية السلبية التي يحدثها هذا الضغط للمسافرين من المدن الكبرى نحو مدنهم الأصل أو نحو مكان وجود عائلاتهم، ليست عادية أو طبيعية”.
وقال كحلاوي لانزي بريس إن “المواطن حين يدخل المحطة ويلاحظ الاكتظاظ، يشعر بصدمة ما، تكرسها الأثمنة المرتفعة بشكل قياسي في هذه المناسبات”، وهو ما ينجم عنه، بحسب المتحدث، “نفور وغضب وهيجان نفسي خطير، خصوصا مع موجة الحرارة التي تشهدها البلاد، وغلاء المعيشة وأثرها على الفقراء والفئات الهشة الأكثر إحياء لشعيرة العيد”.
ومن ضمن ما ذكره الاختصاصي في العلاج النفسي، أن “هذه الفئات، إلى جانب الأزمات الحالية، تجد نفسها أمام استفزاز جديد يتمثل في تجار الأزمات، فلا يجد المواطن بدا من اقتناء تذكرة بثمن مرتفع، رغم ما يشكله له ذلك من غصة وإحساس بالحكرة”، وأضاف أن “الأمر يكون أكثر مدعاة للقلق عند من يريد المواطن أن يقتني أكثر من تذكرة واحدة، فقد يتولد لديه شعور خطير بازدراء الانتماء إلى البلد”.
وفق المتحدث ذاته، فإن “الأوضاع التي نعاينها في المحطات، مهما كانت طبيعتها، توضح حجم الضرر النفسي الذي يتعرض له مغاربة في المحطات الطرقية بسبب النقل، وبسبب الإحساس بأن الدولة لا تحميهم من تغول الباطرونا”، مبرزا أن “المواطن يحس نفسه منهزما ووحيدا، وجمعيات حماية المستهلك ليست حاضرة، فيصبح وجها لوجه مع لوبيات النقل وتتشكل لديه أفكارا سلبية، داخلية، تؤثر عليه أو على المصاحبين له في السفر”.
لذلك، شدد كحلاوي على أن “يعتني المواطنون المقبلون على السفر بصحتهم النفسية، والاستعداد المبكر للسفر، لتجنب هذه الهزات النفسية، التي هي في الأصل مؤقتة، لكنها مؤثرة”، بالنظر إلى “الظرفية الراهنة الصعبة التي نعيشها وتزامن العيد مع الصيف، والدخول المدرسي تفصلنا عنه شهور، ومعروف أن كل هذا يخلق نوعا من الضغط لدى المغاربة تساهم فيه بالضرورة وسائل النقل العمومي”.
[ad_2]