[ad_1]
ذ. محمد بادرة
النظام القبلي هو نتاج تجارب العصور القديمة حتى قبل ظهور الديانات السماوية و حسب بعض الكتابات التاريخية فإنها اشارت الى ان لفظة ءينفلاس كانت تطلق في عهد الديانات الزراعية على فئة مخصوصة من الناس يعتقد انهم يتوفرون على قوة سحرية خارقة تجر لهم الخير والمطر والامن والحياة والانتصار ومع انتشار الديانات السماوية وخصوصا الاسلام حدث تحول في الكثير من القيم وفي العقل الجمعي مما ادى الى اقبار مجموعة من المعتقدات السحرية او في احسن الاحوال الى تكييفها مع المعتقد السماوي فحلت مفاهيم جديدة محل اخرى قديمة مناسبة للوضع الجديد، كما ان حدوث نوع من المثاقفة على مستوى المعتقدات ادت الى احلال كلمات محل اخرى او اعطاء معاني جديدة لألفاظ قديمة وهكذا انتقل مدلول “ءانفلوس” من اطار التقديس والتوظيف الاسطوري الى دلالته الجديدة التي تحيل على السيادة والقوة المسندة بالعرف القبلي…وكل هذه الدلالات المتحورة عبر هذه الحقب التاريخية لم تعد موجودة لتقتصر اليوم على الاستعمال اللفظي دون الوظيفي.
ويمكن للدارس والباحث ان يستخلص المعنى المتداول والشائع لهذه اللفظة من خلال الوثائق والمخطوطات او الالواح وكتب النوازل التي فصلت في دور ومهام مجالس ءينفلاس خصوصا في منطقة سوس خلال القرن السابع عشر الى حدود نهاية القرن التاسع عشر.
ان التجانس والتداخل بين العرف الامازيغي والفقه الاسلامي يتجلى وضوحا وتحقيقا في الالواح والاوفاق الامازيغية، ونقدم مثالا واحدا عن ذلك من خلال احد اوفاق العرف الباعمرانية.
– الحمد لله وحده ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد واله وصحابته، وبعد.
فقد اتفقت جماعة ال(..) كلهم اعيانهم وعامتهم صغيرا وكبيرا بنو عبد الله، فهم الفقيه سيدي الحسين بن عبد الله.. وبنو الاسموريين منهم الشيخ بهى بن بحليس والشيخ محمد وبهوش بن حدا علي والاصبايون ..انهم اتفقوا على صلاحهم وصلاح بلادهم في جميع امورهم. وهكذا اتفقنا
1-ان من قتل احدا فعليه اربعمائة مثقال انصاف واربعة وعشرون راسا من الغنم وغرارتين من “تمنت”(العسل)وصاعين من “الادام”.
2-من ضرب احدا بالعمارة من غير جرح فعليه خمسون مثقالا انصافا والذبيحة.
3-من ضرب احدا بالحجارة وجرحه في الراس من غير كسر فعليه خمسة عشر مثقالا.
4-من قبض احدا في داره على الفساد فعليه مائتي مثقال ومثل ذلك لرب الدار.
5-من تعرض للمرأة في الطريق يريد فيها الفساد فعليه مائة ريال انصافا ومثل ذلك للمرأة ان قامت عليها البينة.
6-من كتب عقد زور وظهر بيده التحقيق فعليه مائتي مثقال سواء الكاتب او من ظهر عليه ..
7-من قلع عين احد فعليه نصف الدية …..
هذا ما اتفقوا عليه– القبيلة المذكورة- وشهدوا به وبتاريخ انتصاف شعبان 1290. عبد ربه علي بلقاسم بن محمد الرمضاني الاعلاوي وعبد ربه محمد بن عبد الواسع الاسموري.
هذه الوثيقة العرفية كتبها فقهاء واعيان بلغة اهل الشرع لكن بنفحة وروح امازيغية تبين ان فيها اجتهاد فقهي والتزام بأعراف القبائل الامازيغية.
الفقهاء في قبائل سوس متمسكون بأعراف وتقاليد قبائلهم وكان لهم دور في تنمية الجانب الموافق للشرع في الواح جزولة وقد جاء ما يفيد ذلك في لوح ماسة ولوح اداو بعقيل حيث ورد في نص من هذا اللوح الاخير ( كل ما حكم به الفقيه وافتى به لا يفتش فيه احد لا بالنفود ولا بالمضاد لأنه انفذه وامضاه هو بينهما – بين الخصمين)
واذا استشكلت عليهم مسالة من المسائل الخاصة بالأرض او السقي او الرعي او بسبب ما يحصل من النزاعات والمخالفات بين الافراد او بين القبائل فانهم يلجؤون الى “ءينفلاس” القبيلة واذا ما زاد الاستشكال فانهم يزيدون على عدد اعيانهم وزعمائهم من ءينفلاس اربعة او خمسة من فضلاء اهل الحصن حتى يتفقوا ويعملوا بما خرجوا به (لوح سيصيض).
ان نظام الحكم المتوارث في قبائل جزولة المكتوب والمدون منه في الالواح والاوفاق و المتوارث منه شفويا تجده مؤطرا بقواعد ضابطة حتى لا يفسح المجال للأشخاص او الافراد الحاكمين او الاعيان باستغلال منصبهم في تحقيق مارب خاصة، ومن القواعد الاساسية في نظام العرف القبلي (قاعدة: لا رجعية في التشريع الجنائي، وقاعدة: لا جريمة ولا عقوبة الا بنص. والعقوبة التي تفرضها الالواح على الجاني تقوم على اصول ظاهرة محققة للغرض منها وهو اصلاح الافراد وحماية القبيلة).
بمثل هذه القواعد الضابطة استطاعت الالواح ان تعرف الجرائم المقصودة والجرائم غير المقصودة وتعرف جرائم متلبسا بها وجرائم لا تلبس فيها وتعرف جرائم ايجابية وجرائم سلبية وتعرف جرائم ضد الجماعة وجرائم ضد الافراد وتعرف جرائم سياسية وجرائم عادية وتميز بين الكبار والصغار من حيث المسؤولية الجنائية اما المسؤولية المدنية فلا يعفى منها القاصر عن كل جريمة يرتكبها او اي ضرر.
اعيان الجماعة (ءينفلاس) يتولون الفصل في الجنايات والمشكلات المدنية وما يحدث في الاسواق من الغش والنقص في الكيل والوزن ومرجعهم للفصل في تلك القضايا القوانين العرفية التي تصدرها الجماعة وتصادق عليها بالأجماع وتكون مدونة في الواحهم، تسجل فيه المخالفات وعقوباتها ويقوم الاعيان بتطبيقها بحزم بعد التثبت من وقوع الجريمة او المخالفة وتكون احكام الاعيان نهائية وغير قابلة للاستئناف بخلاف احكام العلماء التي تقبل الاستئناف امام فقيه او مفتي اخر وكان من مهمات الاعيان تنفيد احكام.
و تعطى كذلك للفقهاء والعلماء صلاحيات تشريعية شرعية في القضايا الجنائية والمدنية وصلاحيات تنفيذية في قضايا الارث والعقارات ومخالفات الاسواق كما انه ليس للاعيان (ءينفلاس) اجور او مرتبات لا من بيت المال ولا من القبيلة بل كانوا يكتفون بنسبة مئوية مما يحكمون به على المخالف او الشخص المدان .
يتبين من المعطيات الاجتماعية التي درسها المؤلف العثماني ان (العرف) كانت له سلطة الزامية قوية في قبائل جزولة وان هذا العرف قد تركز في القضايا المدنية والجنائية وكل ما تتدخل فيه السياسة الشرعية وتتبع فيه (المصالح المرسلة)وفق مذهب الامام مالك. وكان هذا اقصى ما يمكن لأهل جزولة عمله في ظل غياب السلطة القضائية المركزية عن ديارهم وكانت هذه الاعراف وسيلتهم لتحقيق قدر من الانضباط في التقاضي ويسجلون ذلك في شكل (الواح) وقد جمع مؤلفنا خمسين لوحا منها ودرسها دراسة اصولية وفقهية واجتماعية ووجد انها اسهمت في تكريس نظام قضائي مستقر مساير للشريعة في مقاصدها العامة وفي نفس الان مسايرة لمقتضيات الحياة وتطورها.
هذا التميز والتفرد هو الذي دفع امحمد العثماني في كتاب (الواح جزولة والتشريع الاسلامي)الى القول ان الامازيغ استطاعوا بواسطة هذه الالواح ان يجمعوا بين الموضوع الاجتماعي والسرد التاريخي والاجتهاد الفقهي بأصوله وفروعه الى جانب النظر المقاصدي حيث مزجوا ذلك مزجا فريدا فلا هم خرجوا عن الشرع ولا هم تخلوا عن العرف. وهذا المزج المنهجي نادر الوجود في كتابات الفقهاء واهميته هو الكشف عن وقائع التفاعل بين الاحكام الشرعية والاجتهادات الفقهية الاصولية من جهة واختيارات الافراد والجماعات في التصرفات والسلوكيات الحياتية العملية من ناحية ثانية.
هذا المزيج او التركيب المنهجي هو اشبه (بعلم اجتماع الفقه) باعتبار انه العلم الغائب عن مشاغل علماء الفقه وعلماء الاجتماع في عصرنا الحاضر ويقتضي حضور هذا العلم الغائب والاشتغال به ان تتطور البحوث الفقهية بمنظار اجتماعي.
لقد بين الاستاذ امحمد العثماني اهمية (علم اجتماع الفقه) في الكشف عن مفهوم المصلحة باعتبار ان المصلحة العامة هي مركز (المقاصد العامة للشريعة )- فأينما وجدت المصلحة فثم شرع الله-
هذا الراي لا يبتعد كثيرا عن قراءات وعن دراسات هانوطو ولوتورنو وغيرهما من الدارسين الكولونياليين الذين ركزوا على الخصوصية الامازيغية بالتأكيد على ارتباط التشريعات القبلية بالقوانين الرومانية او بالتشريعات الاسلامية، بل منهم من يرى ان الديموقراطية القبلية ونظام الحكم في القبيلة يتجانس مع الواقع المجتمعي والثقافي للقبيلة، كما ان منهم من يربط اشكالية السلطة داخل المجتمع القبلي بالتأثير الاسلامي وها هو روبير مونطاني يقول ان تاريخ ( افريقيا الشمالية شهدت منذ الفتح الاسلامي محاولات عديدة قام بها قادة وزعماء قبائل لهم طموح لتأسيس حكم فردي كما فعله قواد القبائل الامازيغية ورؤسائها في منطقة سوس).
ان هناك تأثير الشريعة الاسلامية ورسوخها على صعيد المجتمع القبلي لكن كل ما هنالك ان الشريعة الاسلامية يعاد تأويلها في مستوى بعض التفاصيل لمسايرة الواقع المعاش ولئن اشتركت مجتمعات مختلفة على الصعيدين الجغرافي والتاريخي في الخضوع للقوانين الاسلامية فان القبائل تختص بمفردها ببدل مجهود لتكييف هذه القواعد مع الاعراف الامازيغية المتداولة كما لاحظ ذلك جاك بيرك.
هل يمكننا ان نحلم بإحياء اعرافنا وديموقراطيتنا الطفولية ؟
بدخول الحماية الاوربية الفرنسية منها والاسبانية بدأت تظهر معالم تنظيمات مجالية وسياسية مغايرة لنظام القبيلة(اراضي المخزن–اراضي الخواص–اراضي الجموع…) وكان من اثار ذلك تفكك البنية الشجرية لنظام القبيلة ومعها تفكك الارث العائلي والقرابة الدموية للأسر الكبيرة وبالتالي تفككت الملكية الجماعية للأرض فحصل زلزال مدمر لهذا النظام الاجتماعي حتى تحطمت قواعد التعامل الاقتصادي وتخربت ضوابط التعامل الاجتماعي وتلاشت كل قوانين العرف القبلي(ءيزرفان) امام قوة الرأسمال الجديد القائم على الاحتكار والملكية الفردية فتسبب ذلك في تفكيك وتفكك العلاقات والقيم الاجتماعية القبلية. فماذا بقي اليوم من هذا العمران الانساني والاجتماعي؟ واين ضاع هذا التشريع الديموقراطي القبلي الذي استقام على مفهوم الانسان بوصفه سيد الطبيعة ومقياس القيم ؟؟؟
هل لنا الحق اليوم ان نعود الى ارثنا الثقافي والانساني الاصيل لإحياء اركان هذه الديموقراطية المحلية؟؟ ام نكتفي بعرضها للزوار وللاجانب في متاحفنا ومعارضنا بشكل فلكلوري؟؟؟
اننا نجزم ان الديموقراطية ليست نتاج ” خصوصية ” غربية وتطور غربي ” خاص ” بل ان في تجربة كل امة وكل شعب وكل حضارة عناصر ديموقراطية تتمتع بهذا الحد او ذاك من النضج والتبلور…ان ثمة عناصر ديموقراطية منتشرة في كل ثقافة انسانية تعبر عن الصراعات الاجتماعية والسياسية التي تعتمل في قاع المجتمع قبيلة كان او امة او شعب فهل نتأسى على ماضينا “الديموقراطي” كما صنعه اجدادنا في نظامهم وتشريعاتهم؟؟؟ وهل نتخلى عن تشريعاتنا الاصيلة التي امتزج فيها العرف الامازيغي بالاجتهاد الفقهي في اسمى صور التمازج والتسامح والتصالح !!!!
[ad_2]