تساءل بنكيران، يوم أمس في قاعة إطلاق الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد، قائلا: «الجميع هنا، الحكومة، الإدارة، رجال الأعمال، المجتمع المدني، فأين هو الفساد؟». رئيس الحكومة لم يجب عن السؤال لكنه وجه رسالة سياسية إلى حزب الفساد مفادها: «النخبة كانت تأخذ الامتيازات بطريقة غير مشروعة مقابل الدفاع عن الدولة، هذه المرحلة انتهت». بنكيران ذهب إلى أبعد من ذلك، وقام بوضع عنوان لهذه الدولة، واستدرك قائلا: «إن النخب التي كانت تقدم خدمات للدولة مقابل امتيازات لم تعد الدولة اليوم في حاجة إليها لأن المغاربة تصالحوا مع الملكية، وأصبح الجميع اليوم يدافع عن الملكية».
لكن بنكيران الذي يشعر بأن المغاربة يؤاخذونه على العجز في محاربة الفساد، وبأن هذه النقطة تعتبر من النقاط السوداء في حصيلته، رجع ورمى الكرة في ملعب الشعب، وقال: «إن الشعوب القوية هي التي تتمكن من محاربة الفساد، والشعوب القوية هي التي يغلب فيها الصلاح على الفساد». هل هذا معناه أننا شعب ضعيف، ومن ثم عليه أن يحمل الراية البيضاء في وجه الفساد؟ هل هذا إقرار بالفشل في مواجهة هذا الفساد؟
لنترك هذه الأسئلة جانبا ونفحص إرادة هذه الحكومة في محاربة الفساد، ومدى وفائها للشعار الذي رفعه الحزب الذي يقودها في الانتخابات التشريعية التي حملته إلى الحكومة، حيث يقول الشعار: «صوتك فرصتك لمحاربة الفساد والاستبداد». الفساد لا يحارَب بالخطابة والشعارات، بل بسياسات عمومية وقرارات وقوانين ومؤسسات، وهناك وصفات عدة يعرفها خبراء محاربة الفساد، وقد وضعت الأمم المتحدة دليلا لمحاربة الفساد، وبعثته إلى جميع الدول المهتمة بمحاربة آفة هذا العصر، لكن الذي يغيب عن هذه الحكومة هو، أولا، اعتبار محاربة الفساد أولوية. رئيس الحكومة يرى أن أولوية الأولويات هي ضمان استمرار حكومته وحمايتها من السقوط، وتطبيع علاقة حزبه بالدولة، وكل قرار أو قانون أو سياسة يمكن أن تزعزع هذه الأولوية فإنه يبعدها بجملته الشهيرة: «لا تسألوني عما لم أحققه، اسألوني عما حققته وكيف حققته». ثانيا، مشكلة هذه الحكومة أنها في مجملها حكومة نظيفة، لكنها لا تتوفر على القوة والإرادة للصمود في وجه الفساد، لأن خبرتها في إدارة شؤون الحكم صغيرة، ولأن الفساد قوي، وله أذرع كثيرة في الإدارة والإعلام ومؤسسات الدولة وحتى في ثقافة النخبة. ثالثا، منذ جاءت هذه الحكومة إلى السلطة وهي ترسل إشارات متناقضة إلى حزب الفساد العريق في المغرب. بنكيران يقصف الفساد في الإعلام والخطب، والحكومة تركز نفوذه في القوانين والقرارات والسياسات العمومية، واليكم نماذج عن هذه القوانين التي توطد أركان الفساد في البلاد…
جل استراتيجيات محاربة الفساد تقوم على ثلاثة أعمدة، وهي: القضاء المستقل والنزيه والمتخصص. ثانيا، التشريع، أي القوانين التي تساعد على محاربة الفساد بوضوحها وبعدها عن الروتين، وإقرارها تجريما واضحا وعقابا صارما للأيادي غير النظيفة. أما ثالث ركن في استراتيجية محاربة الفساد، فهو الإعلام الحر والمستقل والجريء والذي يطارد الفساد بتسليط الضوء عليه وفضحه أمام الجمهور.
ماذا فعلت حكومة بنكيران إزاء هذه الأعمدة الثلاثة؟ إليكم الأمثلة التي تكشف توجهات داعمة للفساد، أو مهادنة له على الأقل.
قانون الحق في ولوج المعلومات جاء مخيبا للآمال، ولا يعكس قيمة التنصيص على هذا الحق في الدستور، فهذا الأخير وضع ثلاثة استثناءات فقط على الحق في الوصول إلى المعلومات، فجاء القانون بـ18 استثناء أفرغت الحق من مضمونه، وعلاوة على هذا لم يضع القانون عقوبات جدية للذي يمتنع عن إعطاء معلومة لصحافي أو مقاول أو مواطن.
مثال ثان.. مشروع قانون الصحافة الجديد، الذي وضعه مصطفى الخلفي، قانون يبقي على العقوبات الحبسية لبث المزيد من الرعب في قلوب الصحافيين، وهو قانون لا يوفر ضمانات كافية للمحاكمة العادلة للصحافي أمام قضاء تابع ومرعوب أكثر من الصحافي (رفض الوزير إدخال حسن النية في تجريم العمل الصحافي، ورفض وضع سقف للتعويضات التي تخرب بيوت المؤسسات الصحافية، وتزرع أجهزة الرقابة في عقول الصحافيين، وتمنعهم من مطاردة مافيات الفساد).
قانون الهيئة الوطنية لمحاربة الرشوة جاء مهلهلا، ولا يعطي أسنانا وأظافر لهذه الهيئة الممنوعة بالقانون من المبادرة والتحرك أمام القضاء لملاحقة الفساد، وحسنا فعل من اقترح بودرار سفيرا في بريطانيا عوض أن يبقى في هيئة لا تقدم ولا تؤخر شيئا.
في هذه الحكومة وزراء يوجدون في وضعية تضارب مصالح واضحة، ومنهم من تحظى مصالحه وشركاته بمعاملات تفضيلية من الإدارة يعرفها القريب قبل البعيد، ومع ذلك لا نسمع لبنكيران حسا إزاء كل هذا.
مشروع إصلاح العدالة، الذي استغرق الحوار حوله سنة ونصف السنة وتطلبت كتابة قوانينه مدة مماثلة، موجود في كل مكان إلا في الأحكام التي تحرر يوميا بمنطق ما قبل مشروع الإصلاح، والمثير للسخرية أن المجلس الأعلى للقضاء تخصص، خلال الأربع سنوات الماضية، في عقاب «المرضى النفسيين» من القضاة الصغار الذين لا حماية لهم، وترك الحيتان الكبيرة التي يعرف العام قبل الخاص فسادها، وبذلك صار القضاء جزءا من المشكلة وليس أداة للحل… زد على كل هذا أن بنكيران لم يزعزع مسامير جحا في المؤسسات العمومية والإدارات المركزية في الوزارات الكبيرة من مكانها، حيث بقي «الأتبلشمينت» المغربي آمنا مطمئنا إلى ممارساته السابقة، سواء كانت ممارسات صالحة أو طالحة أو في المنزلة بين المنزلتين.
وكل عام والفساد بألف خير